سورة المدثر - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


اختلف القراء في {المدثر} على نحو ما ذكرناه في {المزمل} [المزمل: 1]، وفي حرف أبيّ بن كعب {المدثر} ومعناه المتدثر بثيابه، والدثار، ما يتغطى الإنسان به من الثياب، واختلف الناس لم ناداه ب {المدثر}، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال: زملوني زملوني نزلت {يا أيها المدثر}، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله. وروي أنه كان يدثر في قطيفة. وقال آخرون: معناه أيها النائم. وقال عكرمة معناه {يا أيها المدثر} للنبوة وأثقالها، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو {يا أيها المدثر} الآيات. وقال الزهري والجمهور هو {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] وهذا هو الأصح. وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك. وقوله تعالى: {قم فأنذر} بعثة عامة إلى جميع الخلق. قال قتادة، المعنى أنذر عذاب الله ووقائعه بالأمم، وقوله تعالى: {وربك فكبر} معناه عظمه بالعبادة وبث شرعه. وروي عن أبي هريرة أن بعض المؤمنين قال: بم نفتتح صلاتنا؟ فنزلت {وربك فكبر}. واختلف المتأولون في معنى قوله {وثيابك فطهر}، فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر دنس الثوب، ومنه قول الشاعر [غيلان بن سلمة الثقفي]: [الطويل]
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من خزية أتقنع
وقال الآخر: [الرجز]
لاهم إن عامر ابن جهم *** أوذم حجّاً في ثياب دهم
أي دنسه. وقال ابن عباس والضحاك وغيره، المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور، وقال ابن عباس: المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث، وقال النخعي: المعنى طهرها من الذنوب، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض، وقال طاوس: المعنى قصرها وشمرها، فذلك طهرة للثياب. وقرأ جمهور الناس {والرِّجز} بكسر الراء، وقرأ حفص عن عاصم والحسن ومجاهد وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والنخعي وابن وثاب وقتادة وابن أبي إسحاق والأعرج: و{الرُّجز} بضم الراء. فقيل هما بمعنى يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل هما لمعنيين الكسر للنتن والتقابض وفجور الكفار والضم لصنمين: إساف ونائلة، قاله قتادة. وقيل للأصنام عموماً، قاله مجاهد وعكرمة والزهري. وقال ابن عباس {الرجز} السخط، فالمعنى اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، وقال الحسن: كل معصية رجز، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بالأوثان.
واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر}. فقال ابن عباس وجماعة معه: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه، فكأنه من قولهم، من إذا أعطى، قال الضحاك، وهذا خاص بالنبي عليه السلام، ومباح لأمته لكن لا أجر لهم فيه. قال مكي: وهذا معنى قوله تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله} [الروم: 39]، وهذا معنى أجنبي من معنى هذه السورة. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: {ولا تمنن تستكثر} لا تقل دعوت فلم أجب وروى قتادة أن المعنى لا تدل بعملك، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف، وقال ابن زيد: معناه {ولا تمنن} على الناس بنبوءتك {تستكثر} بأجر أو بكسب تطلبه منهم. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه {ولا تمنن} على الله بجدك {تستكثر} أعمالك ويقع لك بها إعجاب، فهذه كلها من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها. وقال مجاهد: معناه ولا تضعف {تستكثر} ما حملناك من أعباء الرسالة وتستكثر من الخير، فهذه من قولهم حبل منين أي ضعيف، وفي قراءة ابن مسعود: {ولا تمنن أن تستكثر}، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {تستكثرْ} بجزم الراء، وذلك كأنه قال لا تستكثر، وقرأ الأعمش: {تستكثرَ} بنصب الراء، وذلك على تقدير أن مضمرة وضعف أبو حاتم الجزم، وقرأ ابن أبي عبلة: {ولا تمنن فتستكثرْ} بالفاء العاطفة والجزم، وقرأ أبو السمال: {ولا تمنّ} بنون واحدة مشددة. {ولربك فاصبر}، أي لوجه ربك وطلب رضاه كما تقول فعلت لله تعالى، والمعنى على الأدنى من الكفار وعلى العبادة وعن السهوات وعلى تكاليف النبوة، قال ابن زيد وعلى حرب الأحمر والأسود لقد حمل أمراً عظيماً. و{الناقور} الذي ينفخ فيه وهو الصور، قاله ابن عباس وعكرمة. وقال خفاف بن ندبة: [الوافر]
إذا ناقورهم يوماً تبدى *** أجاب الناس من غرب وشرق
وهو فاعول من النقر، وقال أبو حباب:
أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ في الناقور خر ميتاً.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ» ففزع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا». و{يوم عسير} معناه في عسر في الأمور الجارية على الكفار فوصف اليوم بالعسر لكونه ظرف زمان له. وكذلك تجيء صفته باليسر. وقرأ الحسن {عسر} بغير ياء.


قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} وعيد محض، المعنى أنا أكفي عقابه وشأنه كله. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب الوحيد، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته، فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطي وإن لم يثبت هذا، فقوله تعالى: {خلقت وحيداً} معناه منفرداً قليلاً ذليلاً، فجعلت له المال والبنين، فجار ذكر الوحدة مقدمة حسن معها وقوع المال والبنين، وقيل المعنى خلقته وحدي لم يشركني فيه أحد، ف {وحيداً} حال من التاء في {خلقت}، والمال الممدود: قال مجاهد وابن جبير هو ألف دينار، وقال سفيان: بلغني أنه أربعة آلاف دينار وقاله قتادة، وقيل: عشرة آلاف دينار، فهذا مد في العدد، وقال النعمان بن بشير هي الأرض لأنها مدت، وقال عمر بن الخطاب: المال الممدود الربع المستغل مشاهرة، فهو مد في الزمان لا ينقطع، و{شهوداً} معناه حضوراً متلاحقين، قال مجاهد وقتادة: كان له عشرة من الولد، وقال ابن جبير: ثلاثة عشر، والتمهيد: التوطئة والتهيئة، قال سفيان: المعنى بسطت له العيش بسطاً. وقوله تعالى: {ثم يطمع أن أزيد} وصفه بجشع الوليد وعتبة في الازدياد من الدنيا، وقوله تعالى: {كلا} زجر ورد على أمنية هذا المذكور، ثم أخبر عنه أنه كان معانداً مخالفاً لآيات الله وعبره، يقال بعير عنود للذي يمشي مخالفاً للإبل. ويحتمل أن يريد بالآيات آيات القرآن وهو الأصح في التأويل سبب كلام الوليد في القرآن بأنه سحر، وأرهقه معناه أكلفه بمشقة وعسر، و{صعوداً}: عقبة في جهنم، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب، والصعود في اللغة: العقبة الشاقة. وقوله تعالى مخبراً عن الوليد {إنه فكر وقدر} الآية، روى جمهور المفسرين أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام، ودخل إلى أبي بكر الصديق مراراً، فجاءه أبو جهل فقال: يا وليد، أشعرت أن قريشاً قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه، فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن، وقال: افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن، فقال: أقول شعر ما هو بشعر، أقول هو كاهن؟ ما هو بكاهن، أقول هو {سحر يؤثر} هو قول البشر، أي لبس منزل من عند الله قال أكثر المفسرين، فقوله تعالى: {فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر} هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي أنه ممن يستحق ذلك.
وروي عن الزهري وجماعة غيره أو الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال: والله إن له لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لحياة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى ونحو هذا من الكلام فخالفوه فقالوا له: هو شعر، فقال والله ما هو بشعر، ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه، قالوا: فهو كاهن، قال والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان وزمزمتهم، قالوا: هو مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، ولقد رأينا المجنون وخنقه، قالوا: هو سحر، قال أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه.
قال القاضي أبو محمد: فيحتمل قوله تعالى: {فقتل كيف قدر} أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله، ويحتمل أن يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه الأول ومدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل بن سهيل: «ويل أمه مسعر حرب»، ومجرى قول عبد الملك بن مروان: قاتل الله كثيراً كأنه رآنا حين قال كذا، وهذا معنى مشهور في كلام العرب، ثم وصف تعالى إدباره واستكباره وأنه ضل عند ذلك وكفر، وإذا قلنا إن ذلك دعاء على مستحسن فعله فيجيء قوله تعالى: {ثم نظر}، معناه نظر فيما احتج به القرآن فرأى ما فيه من علو مرتبة محمد عليه السلام ف {عبس} لذلك {وبسر} أي قطب وقبض ما بين عينيه وأربد وجهه حسداً له فأدبر واستكبر، أي ارتكس في ضلاله وزال إقباله أولاً ليهتدي ولحقته الكبرياء، وقال هذا سحر، و{يؤثر} معناه يروى ويحمل، أي يحمله محمد عن غيره، وعلى التأويل أن الدعاء عليه دعاء على مستقبح فعله يجيء قوله {ثم نظر} معناه معاداً بعينه لأن {فكر وقدر} يقتضيه لكنه إخبار بترديده النظر في الأمر، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الوليد فقال له: «انظر وفكر فلما فكر قال ما تقدم».


{سقر} هو الدرك السادس من جهنم على ما روي، و{أصليه} معناه أجعله فيها مباشراً لنارها، وقوله تعالى: {وما أدراك ما سقر} هو على معنى التعجب من عظم أمرها وعذابها ثم بين ذلك بقوله {لا تبقي ولا تذر} المعنى: {لا تبقي} على من ألقي فيها، {ولا تذر} غاية من العذاب إلا وصلته إليها، وقوله تعالى: {لواحة للبشر}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو رزين وجمهور الناس: معناه، مغيرة للبشرات، محرقة للجلود مسودة لها، والبشر جمع بشرة، وتقول العرب: لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسودته، وقال الشاعر [الأعشى]: [الخفيف]
لاحة الصيف والغيار وإشفا *** ق على سقبة كقوس الضال
وأنشد أبو عبيدة: [الرجز]
يا بنت عمي لاحني الهواجر ***
وقال الحسن وابن كيسان: {لواحة} بناء مبالغة من لاح يلوح إذا ظهر، والمعنى أنها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة عام، وذلك لعظمها وهولها وزفيرها. وقرأ عطية العوفي {لواحةً} بالنصب، وقوله تعالى: {عليها تسعة عشر} ابتداء وخبره مقدم في المجرور، ولا خلاف بين العلماء أنهم خزنة جهنم المحيطون بأمرها الذين إليهم جماع أمر زبانيتها، وقد قال بعض الناس: إنهم على عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم لأن بها تقووا، وروي أن قريشاً لما سمعت هذا كثر إلغاطهم فيه وقالوا: لو كان هذا حقاً، فإن هذا العدد قليل، فقال أبو جهل: هؤلاء تسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم، وقال ابو الأشدي الجمحي: أنا أجهضهم على النار، إلى غير هذا من أقوالهم السخيفة، فنزلت في أبي جهل: {أولى لك فأولى} [القيامة: 34-35] الآية، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن شبل {تسعْة عشر} بسكون العين، وذلك لتوالي الحركات، وقرأ أنس بن مالك وأبو حيوة {تسعةُ عشر} برفع التاء، وروي عن أنس بن مالك أنه قرأ {تسعة أعشر}، وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} تبيين لفساد أقوال قريش، أي إن جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع و{ليستيقن} أهل الكتاب: التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله، إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو من أهلها، ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم، وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيماناً ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين، وقوله تعالى: {وليقول الذين في قلوبهم مرض} الآية، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر، أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضاً عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعاداً أن يكون هذا من عند الله، قال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان.

1 | 2